أحد أهم المشاكل التي تواجه العالم البشري هو حالة التصادم الذي تعيشه المجتمعات في كيانها نتيجة للتناقضات والتباينات في المصالح والأفكار والتي تضعها أمام الأزمات التي تعصف بها وتهز أركانها أسسها وقد تقودها نحو الحرب،وهذا يعني ان تكون هذه المجتمعات هشة وضعيفة وسهلة الانفراط والوقوع في الطريق المسدود الذي لا ينفتح أمام العدل والسلام والاستقرار التي هي أماني وأحلام البشرية.
ولاشك فان تلك الأنانية المفرطة التي تلازم الانسان هي التي تجعله متمسكا بمصالحه الشخصية والذاتية مهما كانت الظروف والنتائج والسبل التي يختارها لتحيقق أطماعه.ولا ننسى ان معظم الحروب وقعت نتيجة لذلك الشره البشري الذي لا يعرف حدودا وقيودا لإشباع رغباته ونزواته.والتاريخ لازال يئن ويتألم نتيجة لذلك الظلم المتراكم عبر تجاوزات اخترقها الطغيان البشري ليعتدي على حريات الآخرين ويلتهم حقوقهم.
ولكي يتم فك التشابك والاختلاف الذي قد يحصل بين أفراد المجتمع ووضع حد لأولئك الذين لاتقف أطماعهم إلى حد كان لابد من وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد.ذلك ان الانسان(كائن اجتماعي بفطرته وطبيعته لايستطيع ان يعتزل الناس لانه عاجز بمفرده عن الوفاء بحاجياته وذلك يستتبع وجود علاقات عديدة بين أفراد المجتمع وهي علاقات لايمكن ان تترك فوضى ينظمها كل فرد وفق رغبته ومشيئته،لذلك لابد من وجود قواعد موضوعة تهدف إلى إقامة التوازن بين الحريات المتعارضة والمصالح المتضاربة محققة بذلك العدل والاستقرار).(1) فهذه العلاقات الاجتماعية المعقدة والمتشابكة تفرض وجود ضوابط تستوعب التناقضات المتداخلة والمصالح المتعارضة،فكل فرد يرى ان لحريته وحاجياته الأولوية وهذا لاشك سوف يؤدي إلى الصدام ان لم توجد هناك مبادئ تبلور مفهوم الحرية كسلوك ونظام اجتماعي رادع لفك التداخل، والإنسان الذي تحركه النوازع الفردية والحاجات الاجتماعية لا يخضع تلقائيا للنظام بل لابد من عملية ضبط اجتماعي تحتوي نزعة الانسان الفردية في النظام الاجتماعي العام.ومن هنا فان(النظام في المجتمع ليس سلوكا غريزيا ولا تلقائيا ولكنه ينجم عن الضبط الاجتماعي ويتوقف عليه).(2)
ان عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد واحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون حسب الاستعمال الأكاديمي الحديث والذي يرادف مصطلحات أخرى أيضا التي تطابق في معانيها كلمة القانون وتبحث عن غاية واحدة وهي التنظيم الاجتماعي.لذلك يعد(القانون من أهم وسائل الضبط الاجتماعي بل هو الوسيلة الأساسية التي يعتمد عليها المجتمع المنظم في ضبط سلوك أفراده).(3) ويرى بعض الباحثين وهو روسكو باوند: ان القانون هو علم الهندسة الاجتماعية الذي يتحقق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظم سياسيا أو الضبط الاجتماعي عن طريق الاستخدام المنهجي المطرد لقوة المجتمع المنظم سياسيا.(4) فالقانون حسب الآراء التي مرت يقوم بدور أساسي في حفظ لحمة المجتمع والحفاظ على استقراره وتماسكه عن طريق توفير العدالة والأمن والحرية،عبر الالتزام بالنظام والقواعد التي تأمر بها السلطة العليا.
ولكن يبقى هذا الكلام على المستوى النظري أما على المستوى العملي هل يحقق القانون تلك الأهداف التي يتوخاها واضعوه،وهل ان التركيبة التي يشتمل عليها القانون من قواعد أسس قادرة على تحقيق تلك الأهداف..؟
الواقع العملي اثبت عدم قدرة الكثير من الدساتير الوضعية على تحقيق تلك المثل العليا بل أنها في بعض الأحيان أدت إلى تصاعد الظلم والفوضى والاستغلال والعبودية خاصة عندما يتعلق الأمر بسلطة مستبدة. وهذا الأمر يرتبط بالجوهر الذاتي للقانون الوضعي ومفهومه المعنوي ولا يتوقف على الكيفية السليمة التي تتم في تنفيذه،باعتبار ان واضع القانون هو نفس الانسان المتحيز إلى اعتباراته الخاصة ومصالحه الشخصية وخضوعه لظروف الزمان والمكان المحدودة مهما كان هذا الانسان نزيها أو محايدا، ولذا فان مفهوم العدل هنا لا يكون الا نسبيا وضيقا يراه واضع القانون من خلال زاويته البشرية الضيقة.والعدل بمفهومه الشمولي والاستيعابي غير المحدد وغير المتحيز والقادر على توفير تلك الأهداف العليا لا يتحقق الا من واضع يمتلك تلك الخصوصيات،ومن هنا يتميز القانون الإلهي بأنه اقدر على تحقيق العدل والأمن والاستقرار والحرية باعتباره يمتلك الموضوعية المحايدة في التشريع والتقنين.
والمشكلة الأساسية التي تواجه عملية تطبيق الشريعة الإسلامية باعتبار أنها تستند على الرسالة السماوية في قوانينها هو:
الإعراض عنها والتمسك بالقوانين الوضعية التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة بعد ان نادت بفصل الدين عن الدولة.
التطبيق السيئ الذي قامت به بعض الدكتاتوريات في استغلال الدين كواجهة لتحكيم سلطاتها الاستبدادية المطلقة.
عدم وجود صياغة حديثة لكثير من القوانين الإسلامية التي لازالت بنفس الأسلوب القديم وهذا الأمر يؤدي إلى عدم استيعابها وفهمها بشكل واضح ومقنع.
كل هذه الأسباب جعلت المرجع الديني الكبير الإمام محمد الشيرازي يقوم بعمله العظيم في دراسة القانون وصياغته وفق التشريع الإلهي لإعطاء الشريعة الإسلامية صورتها الأصيلة في كونها شريعة قادرة على تحقيق المثل الإنسانية العليا.
وهذه ليست أول انطلاقة مبدعة للإمام الشيرازي في تجديد الفكر الإسلامي وصياغته بأسلوب حضاري جديد يتناسب مع المستجدات والمتغيرات الكبيرة،فقد كتب سماحته عن السياسة والاقتصاد والحقوق وأبواب كثيرة أخرى،وجاءت كتابة الفقه القانون لتجسد قمة أعماله الفكرية المبدعة.ولاشك فان قراءة هذا الكتاب سوف تغنينا بالكثير من الأفكار والرؤى وتفتح الأبواب أمامنا لفهم القوانين الإسلامية بشكلها الصحيح والعصري خاصة عند مقارنتها بالقوانين الوضعية.
يرى الإمام الشيرازي ان الحاجة إلى القانون لا تتوقف على عملية احتياج الانسان إلى المجتمع ولا للضبط الاجتماعي فقط(فالقانون إنما نشأ من احتياجات الانسان الجسدية والروحية،أصول الاحتياجات الجسدية المستدعية لوضع القانون عشرة المسكن والملبس والمركب والطعام..كما ان أصول الاحتياجات الروحية عشرة أيضا:الإيمان والفضيلة والعلم والتقوى والتقدم والأمن والاستقلال والحرية والمساواة والعدالة).(5) وبمعرفة لماذا يحتاج الانسان القانون يمكن معرفة نوعية القانون الذي يلائم الانسان وحياته،ذلك ان علم القانون الوضعي حدد الحاجة للقانون في الحاجات المادية وتنظيم العلاقات الاجتماعية والحال ان الحاجة إلى القانون هي اعم من ذلك كما يرى ذلك الإمام الشيرازي:إنما احتاج الانسان القانون لانه إنسان له حوائج فردية واجتماعية في مختلف الجوانب،ولو فرض ان إنسانا عاش وحده في غابة أو كهف لاحتاج أيضا إلى القانون الذي ينظم سلوكه مع نفسه مضافا إلى القانون الذي ينظم سلوكه مع خالقه ومع الكون بصورة عامة.فالقانون لازم لتنظيم شؤون المجتمع مهما كان المجتمع بدائيا أو متوسطا أو مثاليا حيث ان اللازم ان يكون هناك مقياس لسير الفرد والاجتماع في مختلف جوانب الحياة.(6) ومن هنا فان الإمام الشيرازي يعتبر ان القانون يتكون مع الانسان فهو متأصل معه وذاتي على خلاف أولئك الذين يرون القانون بأنه عرضي يوضع لكبح جماح الانسان وضبطه اجتماعيا باعتبار انه شرير وأناني بطبيعته التكوينية،(فالإنسان مطبوع على الشر ولولا تطبعه بالخير عن طريق اكتساب صفته الاجتماعية لصار حيوانا لا يتعامل الا على أساس قانون الغابة ولما تيسر للمجتمع التكون أو البقاء،فالإنسان بطبيعته كما يقول هبز وحشي أناني والحالة الطبيعية حالة حرب وعدوان حالة ليس فيها عدل ولا قانون ولا ملكية فهذه النظم من صنع الدولة).(