المتسارع للعصر الذي نعيش واقعه وظروفه ومتغيراته، ورغم أن القرن الواحد والعشرين بات قاب قوسين أو أدنى، إلا أن الملاحظ أن التوجه العام في مجتمعنا مازال يعتبر التعليم الجامعي وما فوقه هو الغاية المثلى التي يجب على الجميع أن يسعى لنيلها. لذا فقد وجدنا كيف أن النسبة الأعظم من الشباب خريجي المدارس الثانوية يبذلون الجهد الجهيد في سبيل الحصول على مقعد بإحدى الكليات الجامعية مهما كانت بعيدة كل البعد عن ميوله الذاتية وإمكاناته العلمية والشخصية! المشاهد والملاحظ أن مفهوم «التعليم» في العصر الحديث، وعلى الأخص في الدول المتقدمة، قد اختلف عن ذي قبل بشكل يكاد يكون جذرياً، وأصبحت نظرة المجتمع وتقييمه للأفراد يقومان على أسس ومعايير تعلي من قيمة الجهد والعمل بغض النظر عن المستوى التعليمي لصاحبه. فضلاً عن ذلك، فقد اتجهت المجتمعات المتقدمة إلى حصر التعليم الجامعي في أضيق نطاق، فأصبح قاصراً ومقصوراً على فئات بعينها من خريجي المدارس الثانوية المتفوقين. وهذا بالطبع لا يعني إنقاصاً من قدر بقية الخريجين، بل إنهم قد تتاح لهم فرص أكبر عند التحاقهم بالمدارس المهنية المتوسطة أو المعاهد الصناعية. إن خريجي المدارس المتوسطة والمعاهد، وما في مستواهما، يلبون بلاشك الحاجات الأساسية في مجتمعاتهم، ويسدون النقص الذي قد يكون موجوداً في بعض المواقع الإنتاجية. مما يعني أن فرص العمل تكون متاحة لهم أكثر من سواهم، حتى أولئك المتخرجين من جامعات وكليات مرموقة! وإذا انتقلنا للحديث عن واقعنا الخاص، نجد أننا حين نسلم بأن مسؤولية تحقيق أعلى معدلات التنمية والتقدم في بلادنا هي قاسم مشترك بين مختلف فئات المجتمع وكوادره، فإنه لا ينبغي أن ننسى حقيقة مهمة، وهي أن الجهد المقدم من كل مواطن يجب أن يكون هو المعيار الأول والأهم في تقييم مستويات الأداء، بغض النظر عن الشهادات والدرجات التعليمية. لا ريب أن الوصول إلى هذا المستوى من التقييم، سوف يؤدي بكل تأكيد إلى تفجير الطاقات الذاتية الكامنة في كل إنسان، فيحاول مَنْ لم يتمكن من مواصلة تعليمه مثلاً أن يعوّض ذلك في شكل آخر من أشكال الإنجاز والإبداع، كما أن مستوى التنافس على تقديم الأفضل سيرتفع بين أفراد المجتمع ومؤسساته، وهو ما يصب في نهاية الأمر في تحقيق المزيد من التقدم والرفاهية لهذه البلاد. قد يكون هذا المناخ العام هو الخطوة الأولى والأهم في تغيير مفهوم المجتمع والشباب تجاه التعليم. فمن ناحية المجتمع، سيتم ترسيخ أسس جديدة في تقييم الأفراد. ومن ناحية الشباب فإنهم سيدركون أن الوصول إلى مستويات اجتماعية ومعيشية أعلى لن يكون مرده إلى حصوله على شهادة جامعية في هذا التخصص أو ذاك، وإنما بمقدار ما يبذلونه من جهد وإتقان. وإذا كان هناك من نُصح، فإننا نوجه لأبنائنا خريجي المدارس الثانوية، قائلين لهم إن طبيعة العصر الذي نعيشه، إنْ حالياً أو مستقبلاً، يختلف عما سبقه، وهو ما يتطلب من شبابنا فكراً متميزاً وخلاقاً كي يستطيعوا مواجهة التحديات الجديدة وهم مُسلَّحون بأسباب القوة والتفرد. لسنا بحاجة إلى التأكيد هنا إلى أن تلك الرؤية الجديدة يجب ألا تمنع شبابنا على الإطلاق من الحرص على مزيد مَنْ التفوق الدراسي والتحصيل العلمي، على أن يتم ذلك بشكل متوازن ومتناغم بين من يتلقون تعليمهم بالكليات الجامعية المختلفة وأولئك الذين يلتحقون بالمدارس المهنية المتوسطة والمعاهد الفنية والصناعية، بحيث نخرج في النهاية بنوع من التكامل بشكل يلبي حاجات الوطن في المجالات كافة. نشر في مجلة (الثقافة الصحية) عدد (47) بتاريخ (جمادى الأولى 1420هـ -أغسطس 1999م)